فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني:

قوله: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضًا لأمته، أي: ما أصابك من خصب، ورخاء، وصحة، وسلامة، فمن الله بفضله، ورحمته، وما أصابك من جهد، وبلاء وشدّة، فمن نفسك بذنب أتيته، فعوقبت عليه.
وقيل: إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثًا، أي: فيقولون ما أصابك من حسنة، فمن الله.
وقيل: إن ألف الاستفهام مضمرة، أي: أفمن نفسك، ومثله قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] والمعنى، أو تلك نعمة، ومثله قوله: {فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا قَالَ هذا رَبّى} [الأنعام: 77] أي: أهذا ربي، ومنه قول أبي خراش الهذلي:
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي: أهم هم؟ وهذا خلاف الظاهر، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية، كقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقوله: {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وقد يظن أن قوله: {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} مناف لقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} ولقوله: {وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} [آل عمران: 166]، وقوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11] وليس الأمر كذلك، فالجمع ممكن، كما هو مقرّر في مواطنه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} الخطاب عام كأنه قيل: ما أصابك يا إنسان.
وقيل: للرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره.
وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق في قوله: {إذا فريق منهم} قال: ولما كان لفظ الفريق مفردًا، صح أن يخبر عنه بلفظ الواحد تارة، وبلفظ الجمع تارة.
وعليه قوله:
تفرق أهلًا نابثين فمنهم ** فريق أقام واستقل فريق

هذا مقتضى اللفظ.
وأما المعنى بالناس خاصتهم وعامتهم مراد بقوله: {ما أصابك من حسنة}.
وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن، وابن زيد، والربيع، وأبو صالح: معنى الآية أنه أخبر تعالى على سبيل الاستئناف والقطع أنَّ الحسنة منه بفضله، والسيئة من الإنسان بذنوبه، ومن الله بالخلق والاختراع.
وفي مصحف ابن مسعود: فمن نفسك، وإنما قضيتها عليك، وقرأ بها ابن عباس.
وحكى أبو عمرو: أنها في مصحف ابن مسعود، وأنا كتبتها. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}
الخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة: عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله:
إذا أنت أكرمت (الكريم) ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ويدخل فيه المذكورون دخولًا أوليًا، وفي إجراء الجواب أولًا: على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيًا: بطريق تلوين الخطاب، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز وجل، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية (معصية) بعضهم لعقوبة الآخرين، و{مَا} كما قال أبو البقاء: شرطية وأصاب بمعنى يصيب والمراد بالحسنة والسيئة هنا ما أريد بهما من قبل، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلًا وإحسانًا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلًا فضلًا عن أن تستوجب نعمة أخرى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: «لن يدخل أحدًا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته».
{وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} [أي] بلية ما من البلايا فهي بسبب اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصيب عبدًا نكبة فما فوقها أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: «ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك»، وعن أبي صالح مثله، وقال الزجاج: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لاسيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلابد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضًا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات، وقال بعضهم: يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} بعد قوله سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} [النساء: 78] ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله عز وجل: {مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة كما روي ذلك عن أبي العالية ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك: هذا من عند الله تعالى، وقولك: هذا من الله تعالى بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه، وفيما يحصل وقد أمر به ونهى عنه؛ ولا يقال: من الله إلا فيم كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.
ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن {مَا أَصَابَكَ} إلخ على تقرير القول أي: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} يقولون ما أصابك من حسنة إلخ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلًا من {حَدِيثًا} على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني {مَا أَصَابَكَ} إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي {فَمِن نَّفْسِكَ}، وزعموا أنه قرئ به، وقد علمت أن لا تعارض أصلًا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه: {حَدِيثًا} على كون القرآن محدثًا لما علمت من أنه ليس نصًا في القرآن، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل: إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضًا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.
وفي الكشف أن جملة {وَإِن تُصِبْهُمْ} [النساء: 78] إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى: {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} [النساء: 72]، {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ} [النساء: 73] دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما، وأما الثانية: فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلى الله عليه وسلم ذلك الاعتقاد الفاسد قطعوا أن في اتباعه لاسيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة الخبال والفساد، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه: {فَمِن نَّفْسِكَ} ليصير ذلك كافًا لهم عن التثبيط إلى التنشيط، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه: {وَمَن تولى} [النساء: 80] ثم قال ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي وأن {فَلْيُقَاتِلْ} [النساء: 74] شديد التعلق بسابقه، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطئ ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي: {وَيَقُولُونَ} [النساء: 81] أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقد طعن بعض الملاحدة فقال: هذا تناقض، لأنه قال: قل كل من عند الله وقال عقيبه: ما أصابك من حسنة الآية.
وقال الراغب: وهذا ظاهر الوهي، لأن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة كالحيوان الذي يقع على الإنسان والفرس والحمار.
ومن الأسماء المختلفة كالعين.
فلو أنّ قائلًا قال: الحيوان المتكلم والحيوان غير المتكلم، وأراد بالأول الإنسان، وبالثاني الفرس أو الحمار، لم يكن متناقضًا.
وكذلك إذا قال: العين في الوجه، والعين ليس في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب.
وكذلك الآية أريد بهما في الأولى غير ما أريد في الثانية كما بيناه انتهى.
والذي اصطلح عليه الراغب بالمشتركة وبالمختلفة ليس اصطلاح الناس اليوم، لأن المشترك هو عندهم كالعين، والمختلفة هي المتباينة.
والراغب جعل الحيوان من الأسماء المشتركة وهو موضوع للقدر المشترك، وجعل العين من الأسماء المختلفة وهو في الاصطلاح اليوم من المشترك.
قال بعض أهل العلم: والفرق بين من عند الله، ومن الله: أنَّ من عند الله أعم.
يقال: فيما كان برضاه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إنْ أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان انتهى.
وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله: {إن النفس لأمارة بالسوء} وقرأت عائشة رضي الله عنها: فمن نفسك بفتح الميم ورفع السين، فمن استفهام معناه الإنكار أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل المعنى ما للنفس في الشيء فعل. اهـ.

.قال الثعلبي:

وتعلق أهل القدر بهذه الآية وقالوا: نفى الله السيئة عن نفسه بقوله: {وَما أصَابَكَ مِنْ مُصِيبَة فَمِنْ نَفْسِك} ونسبها إلى العبد، فيقال لهم: إن ما حكى الله تعالى لنبيه من قول المنافقين، إنهم قالوا إذا أصابتهم حسنة، هذه من عند الله، فإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك، لم يرد به حسنات الكسب، ولا سيئاته، لأن الذي منك فعل غيرك بك لا فعلك، ولذلك نسب إلى غيرك.
كما قال: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} وكل هذه سبب من الأسباب لا من الكسب ألا ترى أنه نسبها إلى غيرك، ولم يذكر بذلك ثوابًا ولا عقابًا، فلما ذكر حسنات العمل والكسب وسيآتهما نسبهما إليك وذكر فيها الثواب والعقاب. كقوله: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} وكان ما حكى الله عن المنافقين من قولهم في الحسنات والسيئات لم يكن حسنات الكسب ولا سيئاته. اهـ.
قوله تعالى: {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولًا وكفى بالله شَهِيدًا}